سورة ق - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
{ق} قال ابن عبّاس: هو اسم من أسماء الله سبحانه، أقسم به. قتادة: اسم من أسماء القرآن، القرظي: إفتتاح أسماء الله، قدير، وقادر، وقاهر، وقاضي، وقابض. الشعبي: فاتحة السُّورة. بُريد، وعكرمة، والضحّاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، خضرة السماء منه، وعليه كتفا السماء، وما أصاب الناس من زمرد، فهو ما يسقط من الجبل، وهي رواية أبي الحوراء، عن ابن عبّاس. قال وهب بن منبه: إنّ ذا القرنين أتى على جبل قاف، فرأى حوله جبالاً صغاراً، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: وما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، وليست مدينة من المدائن إلاّ وفيها عرق منها، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني، فحرّكت عرقي ذلك، فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف، فأخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إنّ شأن ربّنا لعظيم، تقصر عنه الصفات، وتنقضي دونه الأوهام.
قال: فأخبرني بأدنى ما يوصف منها. قال: إنّ ورائي لأرضاً مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضاً، لولا ذاك الثلج لاحترقت من حرّ جهنّم. قال: زدني، قال: إنّ جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه، يخلق الله من كلّ رعدة مائة ألف ملك، وأُولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه، منكّسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام، قالوا: لا إله إلاّ الله، وهو قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] يعني لا إله إلاّ الله.
وقال الفرّاء: وسمعت من يقول: {ق}: قضي ما هو كائن، وقال أبو بكر الورّاق: معناه قف عند أمرنا، ونهينا، ولا تعدهما. وقيل: معناه قل يا محمّد.
أحمد بن عاصم الأنطاكي، هو قرب الله سبحانه من عباده، بيانه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقال ابن عطاء: أقسم بقوّة قلب حبيبه محمّد صلى الله عليه وسلم حيث حمل الخطاب، ولم يؤثر ذلك فيه لعلوّ حاله. {والقرآن المجيد} الشريف، الكريم على الله الكبير، الخبير.
واختلف العلماء في جواب هذا القسم، فقال أهل الكوفة: {بَلْ عجبوا}، وقال الأخفش: جوابه محذوف مجازه {ق والقرآن المجيد} لتبعثن، وقال ابن كيسان: جوابه قوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} الآية، وقيل: قد علمنا، وجوابات القسم سبعة: {إِنَّ} الشديدة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] و{ما} النفي كقوله: {والضحى...... مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 1-3] واللام المفتوحة، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] و(إنْ) الخفيفة كقوله سبحانه: {تالله إِن كُنَّا لَفِي} [الشعراء: 97]، و(لا) كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، لا يبعث الله من يموت، وقد كقوله: {والشمس وَضُحَاهَا.. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}
[الشمس: 91] وبل كقوله: {ق والقرآن المجيد} {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} يعرفون حسبه، ونسبه، وصدقه، وأمانته. {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غريب.
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} نُبعث، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه. {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} يقال: رجعته رجعاً، فرجع هو رجوعاً، قال الله سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} [التوبة: 83] قال الله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} ما تأكله من عظامهم، وأجسامهم، وقيل: معناه قد علمنا ما يبلى منهم، وما يبقى لأنّ العصعص لا تأكله الأرض كما جاء في الحديث: «كلّ ابن آدم يبلى، إلاّ عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب» وأبدان الأنبياء والشهداء أيضاً لا تبلى.
وقال السدي: والموت يقول: قد علمنا من يموت منهم، ومن يبقى. {كِتَابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين، ومن أن يدرس، ويبعثر، وهو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدّرة.
{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} بالقرآن. {لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} قال أبو حمزة: سُئل ابن عبّاس عن المريج، فقال: هو الشيء المكر، أما سمعت قول الشاعر:
فجالت فالتمست به حشاها *** فخر كأنه خوط مريج
الوالبي عنه: أمر مختلف. العوفي عنه: أمر ضلالة. سعيد بن جبير، ومجاهد: ملتبس، قال قتادة: في هذه الآية من نزل الحقّ مرج أمره عليه، والتبس دينه عليه. ابن زيد: مختلط، وقيل: فاسد، وقيل: متغير. وكلّ هذه الأقاويل متقاربة، وأصل المرج الاضطراب، والقلق، يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدّين، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال، قال الشاعر:
مرج الدّين فأعددت له *** مشرف الحارك محبوك الكتد
وفي الحديث: «مرجت عهودهم، وأمانيهم».
{أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أي شقوق، وفتوق، واحدها فرج، وقال ابن زيد: الفروج الشيء المتفرّق المتبري بعضه من بعض، وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت، ولا اختلاف {والأرض مَدَدْنَاهَا} بسطناها على وجه الماء {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} لون {بَهِيجٍ} حسن كريم يُبهج به أي يُسر. {تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة، وقال أبو حاتم: نُصبت على المصدر. {وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} يعني تبصر أو تذكّر إنابتها له، لأنّ من قدر على خلق السماوات، والأرض، والنبات، قدر على بعثهم، ونظير التبصرة من المصادر التكملة، والتفضلة، ومن المضاعف النخلة، والبعرة.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} يعني البر، والشعير، وسائر الحبوب التي تحصد وتدّخر وتقتات، وأضاف الحَبّ إلى الحصيد، وهما واحد، لاختلاف اللفظين، كما يقال: مسجد الجامع، وربيع الأوّل، وحقّ اليقين، وحبل الوريد، ونحوها. {والنخل بَاسِقَاتٍ} قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: طوالاً، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: سوقها لاستقامتها في الطول. سعيد بن جبير: مستويات. الحسن والفرّاء: مواقير حوامل، يقال للشاة إذا ولدت: أبسقت، ومحلّها نصب على الحال، والقطع.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، قال: حدّثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني. قال: حدّثنا هشام بن يونس النهشلي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك. قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ: {والنّخل باصقات} بالصاد.
{لَّهَا طَلْعٌ} تمر، وحمل سمّي بذلك لأنّه يطلع. {نَّضِيدٌ} متراكب متراكم، قد نضد بعضه على بعض. قال بن الأجدع: نخل الجنّة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال والدلاء، وأنهارها تجري في عبر أخدود {رِّزْقاً} أي جعلناه رزقاً {لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً}.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن صقلاب. قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب، قال: حدّثني ابن أبي الجوادي، قال: حدّثنا عتيق بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم المطر، فسالت الميازيب، قال: «لا محْل عليكم العام» أي الجدب. {كَذَلِكَ الخروج} من القبور.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرس وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيكة وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} وهو ملك اليمن، ويسمّى تبّعاً لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار فأسلم، ودعا قومه إلى الإسلام، وهم من حِمْيَر، فكذّبوه، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان، قال: أخبرني علي بن أحمد، قال: حدّثنا محمد ابن جرير، وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب، حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخراجها، واستئصال أهلها، وقطع نخيلها، فجمع له هذا الحيّ من الأنصار، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو، فخرجوا لقتاله، وكان تبّع نزل بهم قبل ذلك، فقتل رجل منهم، من بني عدي بن النجّار، يقال له: أحمر، رجلاً من صحابة تبّع، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله.
وقال: إنّما التمرة لمن أبره، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة، يقال لها: ذات تومان، فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه، قال: فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول: والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة، عالمان راسخان، وكانا ابني عمرو، وكانا أعلم أهل زمانهما، فجاءا تبّعاً حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة، وأهلها، فقالا له: أيّها الملك لا تفعل، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولِمَ ذاك؟ قالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة، ورأى أنّ لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما، أنّهما دعواه إلى دينهما، فليتبعهما على دينهما، فقال تبع في ذلك:
ما بال نومك مثل نوم الأرمد *** أرقا كأنك لا تزال تسهد
حنقاً على سبطين حلاّ يثرباً *** أولى لهم بعقاب يوم مفسد
ولقد هبطنا يثرباً وصدورنا *** تغلي بلابلها بقتل محصد
ولقد حلفت يمين صبر مؤلياً *** قسماً لعمرك ليس بالتمردد
أن جئت يثرب لا أغادر وسطها *** عذقاً ولا بسراً بيثرب يخلد
حتى أتاني من قريظة عالم *** خبر لعمرك في اليهود مسود
قال ازدجر عن قرية محفوظة *** لنبي مكّة من قريش مهتد
فعفوت عنهم عفو غير مثرب *** وتركتهم لعقاب يوم سرمد
وتركتهم لله أرجو عفوه *** يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومنا *** نفراً أُولي حسب وبأس يحمد
نفراً يكون النصر في أعقابهم *** أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد
فلمّا [......] تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا دنا من اليمن ليدخلها حالت حِمْير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم.
قالوا: فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له: ندا، يتحاكمون إليها، فيما يختلفون فيه، فتحكم بينهم، تأكل الظالم، ولا تضرّ المظلوم، فلمّا قالوا ذلك لتبّع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقرّبون به في دينهم، وخرج الحبران، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، ولمّا أقبلت نحو حِمْير، حادوا عنها، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها؛ فصبروا حتّى غشيتهم، فأكلت الأوثان، وما قربوا معها، ومن حَمَلَ ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما، يتلون التوراة، تعرق جباههما، لم تضرّهما، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما.
فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن.
وكان لهم بيت يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلّمون منه، إذا كانوا على شركهم، فقال الحبران القرظيان، وأسماهما كعب وأسد لتبّع: إنّما هو شيطان يفنيهم ويلغيهم، فخلّ بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه كلباً أسود، فذبحاه، ثمّ هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي.
وروى أبي دريد، عن أبي حاتم، عن الرياشي، قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم محمّد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال في ذلك شعراً:
شهدت على أحمد أنّه *** رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره *** لكنت صهراً له وابن عمّ
{كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ} وجب {وَعِيدِ} لهم بالعذاب يخوف كفّار مكّة، قال قتادة: دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبّع، ولم يدمّره، وكان من ملوك اليمن، فسار بالجيوش، وافتتح البلاد، وقصد مكّة ليهدم البيت، فقيل له: إنّ لهذا البيت ربّاً يحميه، فندم وأحرم، ودخل مكّة، وطاف بالبيت، وكساه، فهو أوّل من كسا البيت {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} أي عجزنا عنه، وتعذر علينا الأول فهم في شك الإعادة للخلق الثاني. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث.


{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} يحدّثه قلبه، فلا يخفى علينا أسراره، وضمائره {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي أعلم به، وأقدر عليه {مِنْ حَبْلِ الوريد} لأنّ أبعاضه، وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله سبحانه عن جميع ذلك شيء، وحبل الوريد: عرق العنق، وهو عرق بين الحلقوم، والعلباوين، وجمعه أوردة، والحبل من الوريد وأُضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين، قال الشاعر:
فقرت للفجار فجاء سعياً *** إذا ما جاش وانتفخ الوريد
{إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} أي يتلقّى، ويأخذ الملكان الموكلان عليك، وكَّل الله سبحانه بالإنسان مع علمه بأحواله، ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره، إلزاماً للحجّة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيّئات، فذلك قوله سبحانه: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} ولم يقل: قعيدان. قال أهل البصرة: لأنّه أراد عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك *** راض والرأي مختلف
وقول الفرزدق:
إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى *** وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل: غدورين، والقعيد، والقاعد كالسميع، والعليم، والقدير، فقال أهل الكوفة: أراد قعوداً رده إلى الجنس، فوضع الواحد موضع الجمع، كالرسول في الاثنين يجعل للاثنين، والجمع، قال الله سبحانه في الاثنين: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] وقال الشاعر:
ألكني إليها وخير الرسول *** أعلمهم بنواحي الخبر
أخبرنا الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن سالم الختلي. قال: حدّثنا أحمد بن أيّوب الرخاني. قال: حدّثنا جميل بن الحسن، قال: حدّثنا أرطأة بن الأشعث العدوي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري أظنّه قال: فيما لا يعنيك لا تستحي من الله، ولا منهما».
وأخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الدينوري، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدّثنا الفضل بن العبّاس بن مهران. قال: حدّثنا طالوت. قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة. قال: أخبرنا جعفر بن الزبير، عن القاسم بن محمد، عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيّئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبِّح أو يستغفر».
قال الحسن: إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه، وعند جماعه، وقال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كلّ شيء حتّى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: لا يكتبان عليه إلاّ ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه، وقال الضحّاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك.
ومثله روى عوف عن الحسن، قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.
وقال عطية ومجاهد: القعيد الرصيد.
أخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أبو محمد البلاذري. قال: حدّثنا محمد بن أيّوب الرازي. قال: حدّثنا أبو التقى هشام بن عبد الملك. قال: حدّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أبي هريرة، وأنس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من حافظين يرفعان إلى الله سبحانه ما حفظا فيرى الله سبحانه في أوّل الصحيفة خيراً، وفي آخرها خيراً، إلاّ قال لملائكته: اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة».
وأخبرنا أبو سهل بن حبيب بقراءتي عليه، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى، قال: حدّثنا زنجويه بن محمد. قال: حدّثنا إسماعيل بن قتيبة. قال: حدّثنا يحيى بن يحيى. قال: حدّثنا عثمان بن مطر الشيباني، عن ثابت عن أنس. أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بأنّ الله سبحانه وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات، قال الملكان اللّذان وكّلا به يكتبان عمله: قد مات فلان، فيأذن لنا، فنصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبِّحون، فيقولان: نقيم في الأرض. فيقول الله سبحانه: أرضي مملوءة من خلقي يسبِّحون. فيقولان: فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي. فكبّراني، وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي ليوم القيامة».
{مَّا يَلْفِظُ} يتكلّم. {مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ} عنده {رَقِيبٌ} حافظ {عَتِيدٌ} حاضر، وهو بمعنى المعتد من قوله: {اعتدنا} والعرب تعاقب بين التاء والذال لقرب مخرجهما، فيقول: اعتددت، وأعذدت، وهرذ، وهرت، وكبذ، وكبت، ونحوهما، قال الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيباً *** فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي وجاءت سكرة الحقّ بالموت؛ لأنّ السكرة هي الحقّ، فأضيفت إلى نفسه لاختلاف الإسمين وقيل: الحقّ هو الله عزّ وجلّ، مجازه وجاء سكرة أمر الله بالموت. أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا جوير. قال: حدّثنا ابن المثنى، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر يقضي، قالت عائشة:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: يا بنية لا هو لي، ولكنّه كما قال الله سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي تكره، عن ابن عبّاس، وقال الحسن: تهرب. الضحّاك: تروغ. عطاء الخراساني: تميل. مقاتل بن حيان: تنكص. وأصل الحيد الميل، يقال: حدت عن الشيء أحيد حيداً، ومحيداً إذا ملت عنه. قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته *** وحدت كما حاد البعير عن الدحض
{وَنُفِخَ فِي الصور} يعني نفخة البعث. {ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد} الذي وعده الله سبحانه للكفّار يلعنهم فيه. {وَجَآءَتْ} ذلك اليوم {كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ} يسوقها إلى المحشر {وَشَهِيدٌ} شهد عليه بما عملت في الدّنيا من خير أو شرّ. وروي أنّ عثمان بن عفّان خطب، وقرأ هذه الآية، فقال: السائق يسوقها إلى الله سبحانه، والشاهد يشهد عليه بما عملت، وقال الضحّاك: السائق الملائكة، والشاهد من أنفسهم الأيدي، والأرجل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل، وقال الباقون: هما جميعاً من الملائكة، فيقول الله سبحانه لها: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} ورفعنا عنك عماك، وخلّينا عنك سترك، حتّى عاينته. {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قوي، نافذ، ثابت، ترى ما كان محجوباً عنك. وروى عبدالوهاب، عن مجاهد، عن أبيه {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قال: نظرك إليّ لبيان ميزانك حين توزن حسناتك، وسيّئاتك.
وقيل: أراد بالبصر العلم، علِمَ حين لم ينفعه العلم، وأبصر حين لم ينفعه البصر. وقرأ عاصم الجحدري {لَّقَدْ كُنتَ} بكسر التاء، وبكسر الكاف، رد الكتابة إلى النفس. {وَقَالَ قَرِينُهُ} الملك الموكّل به {هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} معد محفوظ محضر، قال مجاهد: هذا الذي وكّلني به من بني آدم، قد أحضرته، وأحضرت ديوان أعماله، فيقول الله سبحانه لقرينه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قال الخليل، والأخفش: هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين، وهو جيد حسن، فيقول: ويلك أرحلاها، وازجراها، وخذاه واطلقاه للواحد. قال الفراء: وأصل ذلك إذا دنا أعوان الرجل في إبله، وغنمه، وبقره، اثنان، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي مُرّا بي على أُمّ جندب *** نقض لبانات الفؤاد المعذّب
وقال:
قِفا نبك عن ذكرى حبيب ومنزل ***
وقال: قفا نبك من ذكرى حبيب وعروان.
قال الآخر:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا *** بنزع أصوله واجتز شيحا
وأنشد أبو ثروان:
فإن تزجرني يابن عفان أنزجر *** وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل: يشبه أن يكون عني به تكرار القول فيه، فكأنّه يقول: إلق إلق، فناب ألقيا مناب التكرار، ويجوز أن تكون ألقيا تثنية على الحقيقة، ويكون الخطاب للمتلقيين معاً أو السائق والشاهد جميعاً، وقرأ الحسن {ألقينْ} بنون التأكيد الخفيفة، كقوله: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} [يوسف: 32] {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} عاص معرض عن الحقّ، قال مجاهد وعكرمة: مجانب للحقّ معاند لله.
{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} أي للزكاة المفروضة، وكلّ حقّ واجب في ماله.
{مُعْتَدٍ} ظالم. {مُّرِيبٍ} مشكّك، وقال قتادة: شاك ومعناه: إنّه داخل في الريب {الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد} وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، فأراد بقوله: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} أنّه كان يمنع بني أخيه عن الإسلام، ويقول: لئن دخل أحدكم في دين محمّد لا أنفعه بخير ما عشت.


{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}
{وَقَالَ قَرِينُهُ} يعني الشيطان الذي قُيّض لهذا الكافر العنيد {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} ما أضللتُه، وما أغويته.
وقال القرظي: ما أكرهته على الطغيان. {ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} عن الحقّ فتبرأ شيطانه عنه، وقال ابن عبّاس، ومقاتل: قال قرينه يعني الملك، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب السيئات: ربّ إنّه أعجلني، فيقول الملك ربّنا ما أطغيته، ما أعجلته، وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر: ربِّ إنّ الملك زاد عليَّ في الكتابة، فيقول الملك: ربّنا ما أطغيته، يعني ما زدت عليه، وما كتبت إلاَّ ما قال وعمل، فحينئذ يقول الله سبحانه: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} فقد قضيت ما أنا قاض. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} في القرآن حذّرتكم، وأنذرتكم، فلا تبديل لقولي ولوعيدي. قال ابن عبّاس: إنّهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجّتهم، ورد عليهم قولهم {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، وقال الفرّاء: معناه ما يكذب عندي لعلمي بالغيب {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فأعاقبهم بغير جرم أو أجزي بالحسن سيّئاً. {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} قرأ قتادة، والأعرج، وشيبة، ونافع {نقول} بالتاء، ومثله روى أبو بكر عن عاصم، اعتباراً بقوله، قال: لا تختصموا لديّ، وقرأ الحسن يوم {يقال} وقرأ الباقون يوم {نقول} بالنون {لجهنّم} {هَلِ امتلأت} لما سبق من وعده إيّاها أنّه يملأها {مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وهذا السؤال منه على طريق التصديق بخبره، والتحقيق لوعده والتقريع لأهل عذابه، والتنبيه لجميع عباده.
{وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} يحتمل أن يكون جحداً مجازه ما من مزيد، ويحتمل أن يكون استفهاماً، بمعنى هل من مزيد، فأزاده وإنّما صلح {هَلْ} للوجهين جميعاً، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد، وطرفاً من النفي، قال ابن عبّاس: إنّ الله سبحانه وتعالى، قد سبقت كلمته {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119، السجدة: 13] فلمّا بعث للنّاس، وسبق أعداء الله إلى النار زمراً، جعلوا يقحمون في جهنّم فوجاً فوجاً، لا يلقى في جهنّم شيء إلاّ ذهب فيها، ولا يملأها شيء.
فقالت: ألست قد أقمت لتملأني؟ فوضع قدمه عليها، ثمّ يقول لها: هل امتلأت؟ فتقول: قط قط، قد امتلأت، فليس من مزيد. قال ابن عبّاس: ولم يكن يملأها شيء حتّى مس قدم الله فتضايقت فما فيها موضع إبرة، ودليل هذا التأويل ما أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: حدّثنا بشر، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنّم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتّى يضع ربّ العالمين فيها قدمه، فتتزاوي بعضها إلى بعض، وتقول: قد قد بعزّتك، وكرمك، ولا يزال في الجنّة فضل، حتّى ينشئ الله سبحانه لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنّة».
وأخبرنا ابن حمدون، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى، وعبد الرّحمن بن بشر، وأحمد بن يوسف، قالوا: حدّثنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام ابن منبه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحاجت الجنّة والنّار، فقالت النّار: أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، وقالت الجنّة: فما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم؟ فقال الله سبحانه للجنّه: إنّما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنّار: إنّما أنت عذابي، أُعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملأها، فأمّا النار، فإنّهم يلقون فيها وتقول: هل من مزيد؟ فلا تمتلئ حتّى يضع الله سبحانه وتعالى فيها رجله فتقول: قط قط، فهناك تمتلأ وتزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأمّا الجنّة، فإنّ الله عزّ وجلّ ينشئ لها خلقاً».
قلت: هذان الحديثان في ذكر القدم، والرجل، صحيحان مشهوران، ولهما طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، تركتُ ذكرهما كراهة الإطالة، ومعنى القدم المذكور في هذا الحديث المأثور قوم يقدمهم الله إلى جهنّم، يملأها بهم، قد سبق في عمله إنّهم صائرون إليها وخالدون فيها، وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن معنى هذا الحديث، فقال: هم قوم قدمهم الله للنار، وقال عبد الرّحمن بن المبارك: هم مَن قد سبق في علمه أنّه من أهل النّار. وكلّ ما يقدم، فهو قدم. قال الله سبحانه: إنّ لهم قدم صدق عند ربّهم، يعني أعمال صالحة قدّموها، وقال الشاعر يذمّ رجلا:
قعدت به قدم الفجار وغودرت *** وعود ربّ أسبابه من فتنة من خالق
يعني ليس له ما يفتخر بهم.
على انّ الأوزاعي روى هذا الحديث عن حسّان بن عطية، حتى يضع الجبّار قِدمه بكسر القاف، وكذلك روى وهب بن منبه، وقال: إنّ الله سبحانه كان قد خلق قوماً قبل آدم، يقال لهم: القدم، رؤوسهم كرؤوس الكلاب والذباب، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم، فعصوا ربّهم، وأهلكهم الله، يملأ الله بهم جهنّم حين تستزيد. وأمّا الرِجل فهو العدد الكبير من الناس وغيرهم.
يقال: رأيت رِجلاً من الناس، ومرّ بنا رجل من جياد، وقال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب تقول: ما هلك على رِجل نبيّ من الأنبياء ما هلك على رِجل موسى، يعني القبط، وقال الشاعر:
فمرّ بنا رِجل من النّاس وانزوى *** إليهم من الحيّ اليمانين أرجل
قبائل من لخم وحمير *** على ابني نزار بالعداوة أحفل
ويصدق هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في سياق الحديث: «ولا يظلم الله من خلقه أحداً».
، فدلَّ أنّ الموضوع الملقى في النّار خلق من خلقه، وقال بعضهم: أراد قَدم بعض ملائكته ورِجله، وأضاف إليه كقوله: وسئل القرية. والله أعلم. {وَأُزْلِفَتِ} وأدنيت {الجنة لِلْمُتَّقِينَ} حتّى يروها قبل أن يدخلوها. {غَيْرَ بَعِيدٍ} منهم وهو تأكيد، ويقال لهم: {هذا مَا تُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الأنبياء.
{لِكُلِّ أَوَّابٍ} توّاب، عن الضحّاك. وقيل: رجّاع إلى الطاعة عن ابن زيد، وقال ابن عبّاس وعطاء: الأوّاب المسبِّح من قوله سبحانه: {ياجبال أَوِّبِي} [سبأ: 10]. الحكم بن عيينة: هو الذاكر لله في الخلاء. الشعبي ومجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء، فيستغفر منها. قتادة: المصلّي. مقاتل بن حيان: المطيع. عبيد بن عسر: هو الذي لا يقوم من مجلسه حتى يستغفر الله تعالى. أبو بكر الورّاق: المتوكّل على الله سبحانه في السراء والضراء لا يهتدي إلى غير الله. المحاسني: هو الراجع بقلبه إلى ربّه. القاسم: هو الذي لا ينشغل إلاّ بالله.
{حَفِيظٍ} قال ابن عبّاس: هو الذي حفظ ذنوبه حتّى يرجع عنها. قتادة: حفيظ لما استودعه الله سبحانه من حقّه ونعمته. وعن ابن عبّاس أيضاً: الحافظ لأمر الله. الضحّاك: المحافظ على نفسه المتعهّد لها. عطاء: هو الذي يذكر الله في الأرض القفر. الشعبي: هو المراقب. أبو بكر الورّاق: الحافظ لأوقاته وهماته وخطواته. سهل: المحافظ على الطاعات والأوامر. {مَّنْ خَشِيَ} في محلّ مَن وجهان من الإعراب: الخفض على نعت الأوّاب، والرفع على الاستئناف، وخبره في قوله ادخلوها، ومعنى الآية من خاف {الرحمن بالغيب} ولم يره، وقال الضحّاك والسدّي: يعني في الخلاء حيث لا أحد، وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب.
{وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} مقبل إلى طاعة الله. قال أبو بكر الورّاق: علامة المنيب أن يكون عارفاً لحرمته، موالياً له، متواضعاً لحلاله تاركاً لهوى نفسه. {ادخلوها} أي يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوها {بِسَلاَمٍ} بسلامة من العذاب وسلام الله وملائكته عليهم، وقيل: السلامة من زوال النعيم وحلول النقم.
{ذَلِكَ يَوْمُ الخلود * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} يعني الزيادة لهم في النعم ممّا لم يخطر ببالهم، وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى بلا كيف.

1 | 2